السودان- فخ الغرب المزدوج، الحرب والانفصال بوجه جديد

تواجه الحكومات الغربية، وفي طليعتها الولايات المتحدة، معضلة حقيقية في تعاملها مع الأزمة السودانية المتفاقمة والحرب الدائرة في هذا البلد الشاسع، الغني بموارده الطبيعية الهائلة وموقعه الجغرافي الاستراتيجي المتميز. لقد حباه الله بتنوع بشري وثقافي فريد، كان من الممكن أن يجعله نموذجًا يحتذى به على الصعيدين الإقليمي والدولي، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا. إلا أن صراعات القوى الكبرى وأطماع القوى الصغرى حولت هذه الميزات إلى نقمة مستمرة منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا.
أخص بالذكر الحكومات الغربية تحديدًا، لا الغرب بمفهومه المطلق، والسبب في ذلك هو أن العدوان الإسرائيلي على غزة وتداعياته المأساوية قد أفرزا واقعًا دوليًا مختلفًا تمامًا عما كان سائدًا قبل السابع من أكتوبر 2023. لقد بات جليًا للعيان أن الحكومات الغربية التي اصطفت إلى جانب إسرائيل تعيش في عزلة تامة عن مجتمعاتها وشعوبها، ولا تعكس بأي شكل من الأشكال قيم ورغبات واتجاهات هذه المجتمعات. وهذا يفتح الباب واسعًا لإعادة تقييم مدى صلاحية الآليات الديمقراطية الغربية التي يتم على أساسها اختيار الحكومات، ومدى تعبيرها عن آراء وخيارات الناخبين.
خير دليل على هذا الانفصال الفاضح بين الحكومات وشعوبها، هو الإجراءات القمعية العنيفة التي واجهت بها الولايات المتحدة المظاهرات الحاشدة المنددة بالتحيز الرسمي الأمريكي السافر للجانب الإسرائيلي.
هذا الاستطراد ضروري لفهم الصورة الكاملة للمأزق الذي تعيشه الأنظمة الغربية، والتي باتت غارقة في وحل الأزمة السودانية، ولا تعرف كيف السبيل إلى الخروج منها.
لقد بذلت هذه الأنظمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، جهودًا مضنية منذ بداية التسعينيات للقضاء على حكم الرئيس المعزول عمر البشير، وذلك في إطار سعيها المحموم لمحاصرة تيار الإسلام السياسي. ورغم تسخير الغرب لإمكانياته السياسية والاستخباراتية والاقتصادية، ونفوذه الواسع في المحيط الإقليمي للسودان، فقد استغرق هذا المسعى وقتًا أطول مما كان متوقعًا بكثير، حيث استمر منذ العام 1990 وحتى أبريل 2019.
عقب نجاح الثورة الشبابية التي أطاحت بالرئيس البشير بمساعدة اللجنة الأمنية المكونة من الجيش والشرطة والمخابرات، سارع الغرب إلى دعم المكونات الحزبية المدنية التي تصدرت المشهد، وقدمت نفسها على أنها رأس الحربة في الثورة الوليدة، فتبنت شعارات الثورة، واحتكرت الحديث باسم الثوار، وأطلقت على نفسها اسم "قوى الحرية والتغيير".
لكن سرعان ما برزت بعض الشعارات الخطيرة والمثيرة للكراهية التي صاغها قادة قوى الحرية والتغيير، وجعلوها شعارًا للثورة، مثل "كل كوز ندوسو دوس"، وكلمة "كوز" هي مصطلح تحقيري يطلقونه على المنتمين للتيار الإسلامي، وتعني "سنسحق بأقدامنا كل إسلامي".
كانت خطة الغرب ذات شقين، تقوم على دعم قوى الحرية والتغيير، وفي الوقت نفسه القضاء على الحكم القائم، وأوكلت هذه المهمة المزدوجة إلى ثلاثة سفراء غربيين، كانوا بمثابة المهندسين الذين أشرفوا على تنفيذ المشروع الغربي المزدوج في السودان تحت شعار براق هو: "إحلال الحكم المدني محل الحكم العسكري ونشر الديمقراطية".
إلا أن مهندسي المشروع الغربي، ولسوء تقديرهم واستعجالهم لتنفيذ المشروع، قرروا سلوك طريق مختصر وأقل كلفة حسب تصوراتهم، فقاموا بالتوفيق بين قوى الحرية والتغيير، المعروفة اختصارًا بـ "قحت"، وبين ميليشيا الدعم السريع، بعد أن كان العداء مستحكمًا بينهما منذ مجزرة فض الاعتصام التي اتهمت فيها "قحت" ميليشيا الدعم السريع بتنفيذها. وتقوم الخطة على أن تكون "قحت" هي الحاضنة السياسية للائتلاف الجديد، وأن تكون ميليشيا الدعم السريع هي الذراع العسكرية له، بمعنى أن تحل الميليشيا محل الجيش السوداني الذي يعتقد الغرب أنه تحت سيطرة الإسلاميين.
ولضمان نجاح الخطة، تم تصميم "الاتفاق الإطاري" الذي ينطوي على تفكيك الجيش، تحت مسمى لطيف هو: "إعادة الهيكلة"، وقد عمدوا إلى تلغيم الاتفاق ببنود لا يمكن للجيش أن يقبلها، واشترطوا الموافقة عليها بحذافيرها باعتبارها الحل الوحيد، وأن البديل لها هو الحرب. وهكذا وضعت "قحت" وحليفها العسكري ومن ورائهم الثلاثي الغربي "العقدة في المنشار"، فكان الرفض لها من قبل الجيش والقوى السياسية الوطنية الأخرى، ومن ثم انتقلت الحالة السياسية في البلاد إلى وضع "الإحماء" للبديل الآخر وهو الحرب.
اندلعت الحرب، وكان مقدرًا لها ألا تتجاوز ساعات قليلة، أو أيامًا معدودات في أسوأ السيناريوهات. ولكن هيهات، فقد أتت الحرب بما لا تشتهي سفن مشعليها، فطال أمد الحرب، ودخلت عامها الثاني، ولم تستطع ميليشيا الدعم السريع القضاء على الجيش، بل الأسوأ من ذلك، تحولت الميليشيا إلى عصابات نهب وسلب واغتصاب وسرقة وقتل للمدنيين، وتدمير للمنشآت المدنية، وارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في غرب دارفور، على النحو الموثق والمعروف. ولا تزال تمارس القتل والنهب والسرقة وتدمير الأعيان المدنية وتهجير المواطنين في ولاية الجزيرة وأجزاء من ولاية النيل الأبيض، وتستعد للهجوم على الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور.
في خضم هذا الوضع المتردي، برزت على نحو مفاجئ وثيقة اتفاق سياسي سميت "إعلان نيروبي"، تم توقيعها برعاية الرئيس الكيني وليام روتو في 18 مايو/أيار الجاري، وضم هذا الإعلان 3 قيادات، منهم اثنان من قادة حركات مسلحة، هما عبد الواحد محمد نور (رئيس حركة تحرير السودان- دارفور)، وعبد العزيز الحلو (رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان- الشمال)، والثالث عبد الله حمدوك (رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية) المعروفة اختصارًا بـ "تقدم"، وهي في واقع الأمر مسمى جديد لـ "قحت".
هذا الاتفاق الجديد القديم هو نسخة معدلة ومزيدة من الاتفاق الإطاري الذي أشعل الحرب. والجديد فيه شيء واحد، وهو فقرة تتحدث عن تقرير المصير، فالاتفاق الإطاري وضع شروطًا، إما القبول بها جملة واحدة أو "الحرب"، أما إعلان نيروبي فوضع شروطًا إما القبول بها جملة واحدة أو "تقرير المصير"، وهي الشفرة التي تعني الانفصال، نفس الوعيد هنا وهناك، هذا أو الطوفان.
إذن، فالسودانيون مهددون بتفتيت بلدهم وتمزيقه، وفقًا لإعلان نيروبي، إذا رفضوا قبوله.
هذا الإعلان يعتبر "خارطة طريق" لمشروع فصل إقليم دارفور ومنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق، وهو امتداد للمشروع الأول الذي نجح في إشعال الحرب، لكنه لم يحقق النتائج المرجوة منها، نفس الفخاخ التي لا تجد قبولًا من غالبية الشعب السوداني: "الدين، الهوية، الثقافة، نمط الحياة، هيكلة الجيش والمؤسسات النظامية والأجهزة الأمنية.. إلخ".
أما ورطة القوى الغربية التي تدعم هذا المشروع الجديد القديم، فتكمن في كيفية التوفيق بين طرفي سياستها التي تقوم على مساندة المكونات الأفريقية ضد المكونات العربية من جهة، ومناهضة التيارات الإسلامية من جهة أخرى.
الورطة الحقيقية تكمن في أن الأداة العسكرية التي يستخدمها الغرب لتنفيذ هذا المشروع تتألف بصورة شبه كاملة من المكونات العربية، وهي "ميليشيا الدعم السريع" التي تعادي المكونات الأفريقية وتسعى للقضاء عليها والحلول محلها، فضلًا عن ارتكابها جرائم حرب وإبادة جماعية ضد هذه المكونات. وقد استُغِلت تلك الجرائم في أوساط الرأي العام الغربي بغرض تشويه صورة العرب ووصمهم بالوحشية وممارسة الإبادة الجماعية ضد مجموعات مسلمة بدوافع عرقية، وذلك للتخفيف من الضغط على إسرائيل، وتبرير حربها على غزة والإبادة الجماعية التي تمارسها ضد الفلسطينيين.
في الماضي، وفي عهد الرئيس البشير، كان الغرب يروج لمزاعم مفادها أن نظامه "الإسلامي العربي" يشن حربًا دينية وعرقية ضد المسيحيين واللادينيين ذوي الأصول الأفريقية في جنوب السودان ومنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق. ثم في مرحلة لاحقة، اتهموه بارتكاب الإبادة الجماعية بحق القبائل الأفريقية في دارفور، مستخدمًا "ميليشيا الدعم السريع" المؤلفة من القبائل العربية.
ولكن ها قد دارت الأيام، ليصبح الغرب ومؤسساته وأنظمته نفسها داعمين ومستخدمين لنفس الميليشيا ذات الخلفية العربية، لتنفيذ مشروع القضاء على الإسلاميين، حيث يعتقدون أنهم يسيطرون على الجيش، فأصبحوا في مأزق حقيقي يتمثل في كيفية التوفيق بين هذين المتعارضين.
ما هو، إذن، مصير "ميليشيا الدعم السريع"؟ وما هو موقعها في الكيانات المقترح إنشاؤها وفقًا لبرنامج تقرير المصير؟
أين سيتم إخفاء أداة الجريمة؟ وكيف يمكن فهم هذه المفارقة العجيبة؟
